الصدمة النفسيّة، في سياق قصة شجيّة
عندما يٌصبح الحامي هو المٌعتدي، وعندما تتدمّر وتٌنسف الحقيقة كلّها.
بدأت تبكي بحرقة وصمت، والدموع تنزل وتُتَحتِح مثل السيل؛ لكنه كان نوع آخر من البكاء، مُر وحامض، بكاء حيرة وعدم حيلة، لم تفهم لماذا الأخ الذي كان من المفترض أن يحميها هو من يتعرّض إليها بأشنع فعل. ما زالت وبعد مضي احد عشر سنة تبكي، لكنه بكاء بشكل آخر، بشكل خفي ومتنكر تحت أفعالها ومشاعرها، أصبحت قاسية، جامدة ومتبلدة، لا تطيق الرجال ولا تطيق اللون الأزرق الفاتح ولاتطيق الليل.
تعريف وقالب
من الصعب والمرهق جدا وضع قالب وتعريف موضوعي ودقيق للصدمة النفسية. اذا نظرنا للجملة نجد شقها الأول وهي "صدمة"، اذا أنا سألتك أن تصف لي في كلمات، المشاعر التي انبثعت عندما فكرت في هذا الكلمة غالبا ستقول: شعور مفاجئ من الانكسار، عدم التصديق، انعدام الحيلة، الضعف الشديد بسبب حدث، أو خوف من حصول شيء لم يكن في أدنى توقعاتك؛ وثمّ إذا أتينا للشق الثاني "نفسية" تأتي التعقيدات والمعمعة، لأن النفوس البشرية تختلف وتتباين كتباين اللون الأبيض من الأسود، كتباين حرارة أصابع الشمس وبرودة أذيال الشتاء، كتباين قطرات الندى من حمم البركان، كتباين الجبال المنتصبة من الأودية الجالسة. على قدر تشابهنا وتوحدنا في كثير من الصفات والسلوكيات لكن تبايننا واختلافنا متنافر ومتمايز، لذلك صدمة نفسية بالنسبة لي قد تكون هو شيء عادي تمر به انت يوميا من غير اكتراث، والعكس صحيح أيضا.
الصدمة النفسيّة والصندوق
إذا أردنا أن نفهم الصدمة النفسية الشديدة التي تهزّك من داخلك وخارجك وتغيّر سلوكك للأبد، فهي مثل أن تمتد إليك بلطف متقن يد ناعمة، ملساء وتبدو كأنها تريد أن تربّت عليك وتحضنك براحتها ثم فجأة تصفعك بقوة وغضب في وجنتك إلى أن تحمّر مثل احمرار الجمر عند تسخينه بشدّة. الصدمة النفسية قد تكون أيضا بشكل أدق مثل أن تجد صندوق جميل المنظر، متزيّن ومكسو بالألوان اللافتة والبهية، مصنوع من خامة خلّابة، دافئة وملمسها مريح ولدٌن؛ ثم عندما تفتحه باطمئنان يخرج إليك شيطان أقرع وبشع، متجعّد الملامح وعيناه متشبّعة بالشر والحقد، وانت تتَسَمّر في مكانك وتصبح مثل صبّة الأسمنت المتحجّرة والثقيلة، لا تستطيع أن تحرّك ساكنا واحدا أو تنطق حرفا منفردا، والهواء يصبح ثقيل جدا وبدلاً من أن تتنشقه تبدأ انت تلفظُه وتقذفَه قذفاً من خارج رئيتك، هذا كله من خوف وفزع وانهيار وعدم حيلة في موقف لم تتخيله ولا في أكثر أحلامك جموحاً وكوابيسك رهبه. هذا الصندوق الجميل قد يكون شخص مقرّب إليك، وهذا الشيطان هو عندما يتعدّى عليك هذا الشخص جنسيا ويده اللطيفه تتحوّل إلى خمسين ألف جمرة مشتعلة مثل اشتعلال النار الحادقة، وتُمسِك بجلدك وتحرقه هو روحك، فتبدأ بكح الدخان من صدرك، ودموع الدم تنزل من عينيك، وشفاهك تتشقق وجسدك كله ينشف ويضمحل. هذه هي قصة صديقتي المقربة التي حكت لي هذا الكابوس المرعب، أعتقد أن أفضل طريقة أستطيع أن أخلق بها فهم حقيقي لمعنى الصدمة النفسية وكيفيتها هي بحكاية قصة تلمس هذا الأمر بشدة وحِدّة. من أجل خصوصيّتها سنسّميها فقط (سين) ولن أذكر أي تفاصيل دقيقه غير الحدث المروّع الذي حصل. سنمر بالقصة مشهد تلو مشهد، وسنفهم كيف ستكون اعراض الصدمة النفسية في سياق هذه القصة على الأمد اللحظي، والقصير والطويل. أثناء سردي للقصة، من بين كل مشهد سأضع فاصل أشرح فيه السبب العلمي وراء هذا العَرَض وهذا سيضمن لنا فهم شامل لمضمون الصدمة النفسية، بالطبع سنتطرق إلى كيفية التشافي بشكل عام. هذه قصة سين التي تعرضّت لاعتداء جنسي من أخيها. نعم لقد قرأتها بشكل صحيح، أخيها.
يوم السبت الحادية عشر من فبراير، عام الثانية عشر بعد الألفين
سين فتاة جميلة، كثيرة الضحك وتحب الدردشة، هي الوسط بين أخوتها. سين كان عمرها 14 سنة من الروح المرِحة والمُحِبة، أكبر أخوتها هو ميم، كان عمره 19 سنة من الروح المعتلّة والفاسدة. ميم كان يبدو شخصا طبيعيا كأي شاب في عمر التاسعة عشر من الطيش والاندفاعية والمرح الزائد، كان يؤدي واجباته كإبن بشكل جيّد وكان نوعا ما لطيفا مع أخوته، لكنه كان يملك نفسا مدسوسة، متسلّقة وملتوية كنبتة المحلاق حول رغبة ونشوة فاسدة ومشوّهة، غول بشِع مختبيء وراء وجه مراهق لطيف. سين كان لديها خوف مُبهم، غير مفهوم من اللون الأزرق الفاتح، السبب كان مطموس وغائر إلى أن حكت لي ما حدث لها بشفاه مرتعشة وأسنان مصطّكة وحنكٌ مضطرب، تماماً مثل الحارس الليلي الذي يتلوّى من البرد القارس في منتصف ديسمبر. أمّا أنا فكنت أسمع بآذان منفرجة ومٌنشقّة مثل انشقاق الأرض عند ضربها بقوّة بسبب هول وثقل ما كنت أسمعه، لكن عندما يحكي لك شخص ويلفظ كلمات بهذا الثقل فانه يحتاج الى عصا يتكّل عليها، لذلك يجب أن تكون متعاطف ومُستقبِل لكل تلك الجوارح والمشاعر المهتزّة.
كان الوقت في الثلث الثاني من الليل، أهل سين ذهبو إلى قريتهم لزيارة بعض الأقارب، ولم يبق في البيت سواها هي، وميم... سواها هي والشيطان. غرفة سين مظلمة وباردة، استيقظت من نومها من صوت فتح الباب، خافت قليلا لكنّها تطمّنت عندما رأت أخاها، مرتديا قميصا بدا لونه أرزق فاتح. اقترب اليها وهو يقفز كالضفدع وتنبث منه رائحة كريهة (خمر) كأنه أتى من وحلٍ قذر، وهَمسَ لها مثل فحيح الأفعى: اقتلعي ملابسك.
امتّدت أيادي العفريت وبدأت تشوّه جسدها الطاهر. من شدة شناعة الموقف ومن هول ما كان يحصل لها، شَلّ لسانٌ سين، اصبحت بكماء، الحروف كانت ترفض تماما أن تخرج من فمها وصوت طلب الإغاثة كان يتبخّرعلى الفور وفي لحظته – فاصل: هناك منطقة في اللب الأيسر للدماغ تدعى منطقة بروكا، هي مسؤولة عن الحديث وتحويل المشاعر والأفكار إلى خطاب ولغة مفهومة، في حالة الصدمة النفسية القوية تفقد هذه المنطقة نشاطها تماما ويفقد الشخص القدرة على الكلام، ويسمى هذا العَرَض بالرعب الصامت – لابد أن معظمكم قد مرحلة بظاهرة تعدى الجاثوم، بحيث فجأة تستقيظ من نومك غير قادر على الحركة أو الكلام، وتشعر بأنك هناك ثقل على صدرك، أتتذكّر كيف كنت تشعر؟ وكيف كنت خائف؟ الآن اضرب هذا الشعور في سبعين ألف، الناتج هو نتفةٌ فقط من شعور سين في تلك اللحظة.
سين بدأت تبكي بحرقة وصمت، والدموع تنزل وتُتَحتِح مثل السيل؛ لكنه كان نوع آخر من البكاء، مُر وحامض، بكاء حيرة وعدم حيلة، لم تفهم لماذا الأخ الذي كان من المفترض أن يحميها هو من يتعرّض إليها بأشنع فعل. ما زالت وبعد مضي احد عشر سنة تبكي، لكنه بكاء بشكل آخر، بشكل خفي ومتنكر تحت أفعالها ومشاعرها، أصبحت قاسية، جامدة ومتبلدة، لا تطيق الرجال ولا تطيق اللون الأزرق الفاتح ولاتطيق الليل. علاوة على ذلك سين في تلك اللحظات المروّعة والليلة الشبيهة بعاصفة سوداء قاتمة، لم تكن تستطيع الدفاع عن نفسها، لم تستطع تحريك جسدها، كأنها يداها تكبّلتا وبطنها رُبِطت ورقبتها عُصِرَت ورأسها تجمّد وتحوّل إلى حجر – فاصل: هذه الحالة التي تسمّى بالتجمّد، شائعة جدا عند الخوف الشديد، الجهاز العصبي بدأ افراز كميات مهولة من الهرمونات وفي النهاية الجسم من شدة هول الموقف بالنسبة له تعدّى حالة الكر والفر وقرر الجمود وعدم الحركة – أثناء تلك الليلة ومن شدة أنها لم تُرِد تصديق ما يحصل، ومن ِشدة قوة الألم والانتهاك الفتّاك الذي كانت تشعر به، سين فصلت نفسها عن جسمها، بدت كأن نفسها موجودة في سقف الغرفة، وأنها تنظر لفتاة أخرى ليست هي تتعرض لاعتداء جنسي – فاصل: هذه الحالة تسمى الانفصال أو فك الارتباط بحيث ان الشخص ينكر انتماءه لجسده وكأنه خرج منها، وهو عَرَض شائع جدا لضحايا الاعتداء الجنسي الأُسري –.
بلع حوتٍ وظُلم مٌجتمع
بالنسبة لميم كانت تلك ليلة واحدة طائشة تحت تأثير الخمرة وبسطوة نفس عفريتية معتلّة، ولم يكررها مجددا. حاول أن يمضي بحياته وبُصاق الخزي على وجهه وتجاعيد الندم مرسومة عليه، فهو رجل وهو المُعتدي، لم يخسر الكثير، فمضى. أما بالنسبة لسين، الفتاة المعتدى عليها، تلك الليله هي حوت ضخم، جبّار، مكفهر، بشِع وشديد السواد والظلمة، أبتلعها وأبتلع مرحها وروحها وحياتها، وأصبحت تعيش في تلك البطن، جائعة، خائفة ومتربّصة لأي أذى، ومنتظرة بيأس وقنوط أن يلفظها هذا الحوت للخارج. هل هناك أمل لخروجها؟
ستسألني بالطبع، لماذا لم تحكي؟ لماذا لم تخبر أسرتها؟ لماذا لم تركض إلى أمها أو أبيها؟ لماذا لم تهرول إليهم؟ مشيرة بأصبعها الطاهرة إلى ذلك المجرم الفاسد والقذر. أعتقد أننا سنكون حمقى لو اعتقدنا أنّ الأمر بهذه البساطة بالنسبة لسين، أو أن اسفنجة مجتمعنا المتحفّظ للغاية والمتشبّعة بمعتقدات وأفكار سامة جدا وتحيّزات خانقة قد تقبل أن تتشرب فكرة أنّ الأخ الرجل قد اعتدى على أخته الفتاة، أتريد أن تجلب لنا هي العار؟ ماذا سيقول الجيران عنّا، ماذا سيحكي صاحب الدكان لزوّاره، عن ماذا سيدردش الحلّاق مع زبائنه، كيف سينظر إلينا سائق الحافلة، بائع الليمون، بائع عصير العرديب المركّز؟ سيفكرّون بكل هذا، بكل تفصيلة، ورد فعل كل شخص، ولكن ماذا عن الشخص الوحيد الذي رأيه يهٌم بِحق؟ ماذا عن الضحية؟ بوضع يدِكُم على فمها واطباقِه، وخنق رقبتها وتضييقها، فأنتم إذاً قد حكمتم عليها بالاعدام صمتا حتى الموت.
أثناء وبعد مرور بضع شهور: كوابيس وغولٌ في الليل
مضت الأيام والشهور وسين المطبوق على فمها تعيش كوابيس مرعبة للغاية عن نفس تلك الليله وبكل تفصيله صغيره، حتى وهي مستيقظة في وضح النهار ووجه الشمس مقبل على سكان أرضٍ بؤساء ومستقيمة على نظام عدلٍ ملتوي، كانت تأتيها ومضات سريعة في حال رأت أو سمعت أو شمّت شيئا مربوطا بتلك الليلة، تعيدها بالزمن إلى وراء وكأنها فعليا وبكل تجسد وحقيقة بدأت تعيش تلك الليلة مجددا – فاصل: هناك منطقة تدعى برودمان تسعة عشر توجد في المنطقة البصرية للدماغ، هي مسؤولة عن استقبال المعلومات الحسية البصرية من العالم الخارجي بشكل خام تماما ثم تقوم بتوزيعها لباقي المناطق في الدماغ لفرزها وتصنيفها وتحليلها ووضع سياق منطقي لها ووضع بداية ونهاية وتسلسل لأحداث هذه المعلومات البصرية، كل ما تقوم به برودمان تسعة عشر هي فقط استقبالها لا غير، الشخص الذي تعرّض لصدمة نفسية قوية يكون لديها نشاط عالي جدا في هذه المنطقة بالتالي كل الأحداث البصرية التي تم استقبالها وقت حدوث الصدمة مازالت كأنها حدثت للتو؛ لأنه لم يتم توزيعها وفرزها لباقي مناطق الدماغ لذللك سيشعر الشخص أنه مازال هناك عند حودث الصدمة حتى بعد فترة طويلة –.
عندما تظهر أطراف ذيول تلك الليلة الشنيعة خلال يومها، سواء كانت في المدرسة أو تتمشى على الرصيف، تنفجر سين باكية مثل عين منفجرةٍ حمِئة، وترجف بشدّة كعمود إنارة خشبي ومهتريء في وسط عاصفة مغتاظة وثائرة، ويثور نفَسُها كأن صدرها تمرّد ويريد أن يقتلع نفسه، بعد بضع دقائق ترجع سين لطبيعتها وفي منتصف جبهتها المُتعبة تساؤل والتباس كبير. كانت تقضي سين أغلب وقتها هكذا، مبهمة، لا احساس لها بالزمن، لا تلامُس لها مع الواقع، جامدة بين الخيال والحقيقة كجمود قارب على مسافة بعيدة بين البحرالهائج والسماء الصافية – فاصل: ينقسم الدماغ الى فصّين، الفص الأيمن والذي يحمل موسيقى التجربة من أصوات، وصور وتخيّلات ومشاعر عميقة، والفص الأيسر الذي يحمل تفاصيل التجربة من تسلسل منطقي، وقائع، حسابات، ووضع إطار زمني للقصة؛ في حالة الصدمة النفسية القوية يحصل انطفاء شبه تام للفص الأيسر، بالتالي أي محفز يذكِّر الشخص بالصدمة سيجعله يعيشها مرة أخرى بكل حواسه الخمسة لكن من غير فهم لها أو تحليل أو منطق أو تسلسل أو حتى وعي منه أنها حدثت في الماضي –.
الليل بالنسبة لسين هو غول ضخم ببطن سمينة، نومها مضطرب جدا وقلقها يخترق السماء، ولا أجد وصف أدق أكثر من قول جبران خليل جبران "بلغتُ غرفتي، وارتميت على فراشي كطائر رماه الصياد فسقط بين السِّياج والسَّهم في قلبه، وظلت عاقلتي تتراوح بين يقظة مخيفة ونوم مزعج".
أثناء وبعد مرور بضع سنين: ذنبٌ وألم
الألم شيء موجِع جداً، نحن كبشَر لا نستطيع أن نطيقه ونحاول بكل السبُل دفعه بعيدا وبكلَ ما أوتينا من قوّة، بل قد نفعل أشياء غير منطقية فقط لحجب أقل وأبسط أنواع الألم عن أعيننا، حتى الذي قد يكون لفائدتنا؛ مثل تفادي مشاكلنا، التقليل من ممارسة الرياضة، التماطل عن الأعمال المهمة، ومواجهة الحقيقة. أمّا بالنسبة للألم المُضِر الذي يشيع في أنفسنا مشاعر سلبية مرعبة، هزع، وجنون مثل جريمة قتل، أو جُنحة عنف جسدي، أو جِناية أذى عاطفي؛ فإننا نتناءى عنها وننفر نفسنا منها ونستنكر بكل بجاحة أنّ كل هذا قد يحصل بمرأى قريب منّنا، مثل ما حدث لسين، أخ يعتدي على أخته جنسياً؟ لا، مستحيل. هذا ليس مجتمعنا وهذا ليس شيء يقبله عقل ولا يوجد به شيء من المنطق. لكنّه حصل، وربما هو يحصل الآن، ويٌحتمل أن يحصل مستقبلاً. ربما هذا المجرم، السفّاح والسّفاك لن يكون الأخ، لكن قد يكون العم أو الخال او ابن العم\ة أو ابن الخال\ة أو حتى الأب بحد نفسه.
ما شعرت به سين من ألم نفسي كان مثل أن تُنصَب على عمود أمام شمس ضَرِعة وأذيالها المتلهبة تضرب جبهتك، ثم تٌفرَد أطرافك، ويتم سلخ جلدك حياً بنصلٍ ميّت، يملؤه الصدأ. تخيّل أن تعيش هذا كل يوم وتدُسّه في قلبك. بطبيعة الحال ألمٌ كهذا لن يحتمله عقل، بالتالي مع مرور الوقت بدأ دماغ سين يمارس حيَلهُ لكي يخفَف على قلبها، فأصبح يحشر ذكر هذه الصدمة في مؤخرة الرأس وداخل القبو فتنسى سين تدريجيا تفاصيل ذلك الجُرم وبل تبدأ تستنكره، وهو بالطبع ليس نسيان، بل تناسي.
ما أراه أكثر إرتياعاً، ويجعل قلبي يغشى عليه من الألم، وحلقي يختنق من غصّته، هو احساس الخزي وكره النفس الذي تُحس به سين اتجاه نفسها. أن تعذّب نفسها، وتتهّمها بالعار، لأنّها وقفت جامدة أثناء حدوث تلك الجريمة، أثناء تلامس أذيال أصباعه القذرة، بجنّةِ جلدها الطاهرة. ما حدث كان خارج نطاق قوّتها وداخل أحشاء عضدها فاهتزّ كل ما فيها، وجمودها كان فوق إدراك حسّها وتحت سطوة صدمتها فتحجّر كلّ ما فيها. أشد الناس بؤسا، وأكثر أصواتهم زمجرة، سيتحوّل إلى عصفور منتوف الريش في خضم حدثٍ كهذا.
تمر السنين، وسين تشقّ أيامها شقاّ كالمحراث الذي يجرّه الثور لشق الأرض من أجل بدأ الزراعة. لكن هي ليس لديها ما تزرعه، لقد فقدت احساسها بالاتجاه في العالم، فقدت شغفها ورغبتها أن تطمح، فقدت ونسيت معنى أن تملك هدف تحققه من أجل نفسها. سين فعلا مازالت مثابرة، هي مجتهدة في مجالها وتحقق انجازات، لكنه كلّه من غير طعم، بل حتّى أنه مر وحامض، مثل مضغ نبات العلقم من غير أسنان، ولاتملك أدنى حب لنفسها وما تُنجزه. هي مندفعة في العالم وتؤدي ما عليها من الذهاب إلى الجامعة، المذاكرة، وواجبات المنزل ولكن لا تدري ما الذي يدفعها، ولا تدري ما تشعر به غير التنمّل، الوخز في القلب، والصداع المستمر في الرأس. سين تقلّص جسدها، قصُرَ صوتها، أصبحت تمشي بحذر، تتفادى الأمكان المزدحمة بالرجال، بل أنها مستعدة أن تلف دائرة كاملة من مئات المترات حول منطقة ما فقط للتتفادى الحرارة المنبعثة من رجل، أو همس صوت أحدهم، دماغها أصبح لديه وظيفة واحدة فقط: أن تحمي نفسها. خيال سين الذي كان خصباً أصبح مسموماً بآثار صدمتها النفسية، فأصبح أي فعل مبهم لشخص أو أي حدث متّسخ بالقليل فقط من غبار صدمتها، سيحشرها فورا في آلة ناقلة للزمن وستعود مجددا لنفس ذلك الحدث وبشكل أكثر رعبا لأنه سيكون عبارة عن صور ومشاعر سيئة عشوائية بلا بداية ولا نهاية، وسيستمر فقط لبضع ثوان أو دقيقة، لكن بالنسبة لسين فلا احساس لها بالزمن أصلا في تلك اللحظة.
الرحلة والشراع الأبيض
تعيش سين باستمرار في ذلك الإطار الزمني المحدود للحدث، مع ثقوب صغيرة للحاضر وأشعة للأمل من حين لآخر، سين عالقة هناك، هي فقط تحتاج من يخبرها بكل عمق، ويتحدث مع قلبها بكل رقّة ويقول له: لا تقلقي، لقد انتهى كلّ شيء، أنتي الآن في الحاضر، آمنة، نعم لقد مررتي بأسوأ ما قد تمرّ به أنثى، نعم العالم صعب، ولكن يمكنك التعامل معاه، كل شيء بخير الآن، لا بأس عليك. ما زال قلبك ينبض، ومازال دمك يجري بتدفق متوسّلا إليك أن تعيشي، ومازلتي طاهرة، وصافية، ونقية أنقى من قطرات الماء التي تنسكب من ورقة بعد إمطار غمامة عليها.
عندما تتعرض لصدمة نفسية قوية، من المحال أن تعود كما كنت، ستتغير تماما من كل جانب وفي أصغر تفصيل. العالم سيُستبدَل تماما، وملامحه ستُحَل لشيء آخر. لكن هذا لا يعني فقد الأمل، ولا يعني ذبول النفس، ولا يعني أن تعيش في رعب مدى الحياة. بل يعني أن تتملك الشجاعة لتقبَل النفس المُلامة التي تُشكِّل داخلك، ولتقبَل الجسد المنبوذ الذي يُشكِّل خارجك. يجب أن تبدأ تعلُّم العالم الجديد الذي طرأ. يجب أن تصبح شجاع لتتذكّر تلك الصدمة، تتحدث عنها، مع من يهمّهم الأمر، والأولى بالطبع، مع من هم محترفون في التعامل مع مثل هذه الأمور (المعالجون والأطباء النفسيون). يجب أن تتعلم كيف تتحكم بردّات فعلك وتهدئ نفسك عندما تمُر بشيء يذكّرك بتلك الصدمة. يجب أن تتعلّم أن تثق بالآخرين، وهو أصعب تحدٍّ بالطبع، ولكن افعل ذلك رويدا رويدا، لا داعي للعجَلة. التشافي رحلة طويلة للغاية، لكنّها رحلة مُستحقّة. ستركب قارب، بشراع أبيض، ستسمع صوت طيور النورس، تّشجّعك للمضي قدما، سيعلو موج البحر وسيدنو. تارةً سينعكس نور اللشمس الدافئ في وضح النهار على مرآة البحر الأزرق وتنيرُ وجهك، وتارةً أخرى ستُزمجِرعليك رياح العاصفة الهائجة في بطن ليلٍ مظلم ودامس، لكنّك ستمضي، والشراع الأبيض سيظل منتصبا، وستستمر باصرار في البحث عن جزر نفسك الضائعة، وستكتشف جزر جديدة، وستلتقي بأصدقاء آخرين وتحملهم على متن القارب، وستستمر في رحلتك. هذه هي رحلة التشافي.
حقيقة لا كلمات للعزاء لكن دعوات صادقة أن يتبدل حالها للأفضل وكل من واجه نفس الموقف كذلك...
كاتب عظيم و محلل رائع نفع الله بك🌿
واجبٌ علينا جميعاً الرضا عن تلك الكارثه اي كانت فلِكل منا واحده تختلف عن الأخر ،
لم تكن من اختيارنا
ولكن..
لك الاختيار بأن تكون ضحيه لها أو أن تكون
الناجي منها .
لك الاختيار.